محمود أمين العالم اليسار العربي الجديد والتكيّف مع الواقع
بقلم: د.نزار عكرمة
بعد مرور نحو عامين على رحيل محمود أمين العالم عثرت أمينة النقاش على حديث للمفكر الماركسي الموسوعي في منتصف التسعينيات ترددت في نشره لجرأته، ليعود هذا الحديث كشهادة لمفكر كبير على العصر.
سوف نقوم هنا بتلخيص أهم الرؤى والمواقف والأفكار التي مازالت تنبض بالحياة لراهنيتها وضرورتها.
ففي تحليله لسقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية يبدأ محمود أمين العالم الإجابة كعادته بمقدمة فلسفية (في الحكم على الأشياء فإن ما يشغلني هو رؤيتي التاريخية، إذ أراها في وضعها التاريخي وظروفها الموضوعية، لأن حركة التاريخ إمكانية مفتوحة على عناصر متداخلة ليست مسبقة التكوين).
بهذه المقاربة المنهجية التاريخية يؤكد العالم أن بناء عظيماً قد شيد في ظرف تاريخي ما لايعني أبداً بعد سقوط هذه العمارة أن القوانين الاشتراكية هي خطأ بحد ذاتها، فلا يجوز الحكم على الأشياء من ظاهرها، فالقوانين الاشتراكية هي كالقوانين الهندسية لها صفة الحقيقة العلمية. أما انهيار هذا البنيان فله حديث آخر يكمن في الاستمرار بعملية البناء مع مراعاة ظروف المجتمع وخصوصياته، أما بعث الحياة والتجديد في روح هذه العمارة فهو أمر مختلف وصعب.
ويرى محمود أمين العالم أن من أخطاء الثورة الاشتراكية الروسية القاتلة هي
1-انهيار الإنتاج الزراعي لصالح الصناعي الثقيل.
2-عدم الاهتمام بالصناعات الاستهلاكية الضرورية للناس.
3-تسلط الحزب ودفع الناس بالسوط لتحقيق عوائد للصناعات الثقيلة.
(تسلح- فضاء- قصور).
4-غياب مظاهر التفتح والازدهار والديمقراطية لصالح الانغلاق والتقشف والقمع والاستبداد والبيروقراطية.
5-كان الفساد هو الابن الشرعي للاستبداد فقد كثر المتسلقون ووعاظ السلاطين وفقدت الاشتراكية مصداقيتها وانهار النظام تماماً.
ورغم أن لينين قد عبر عن فهم عميق للاشتراكية بأنها (التحليل العيني والملموس للواقع الملموس) فقد صدَّر السوفييت هذا النموذج للعالم، رغم أن تطبيق الاشتراكية لابد له من أن يخصص، لأن القانون العام دون أن يخلق خصوصيته في التنفيذ ودون أن يراعي سمات المجتمعات (صناعية-زراعية-رعوية) قابل للفشل.
وهذا ماتفوقت الرأسمالية فيه، إذ إن النماذج الرأسمالية كانت مختلفة تماماً عن بعضها. ورغم الاتفاق على المبادئ العامة للاشتراكية فإن ماركس لم يترك نموذجاً محدداً للاشتراكية. وكلنا يعرف الصراعات الحادة بين رؤى رفاق الثورة حول النموذج والسلطة، وكيف صُفّوا إما فكرياً أو حزبياً من قبل الاتجاه المهيمن في الحزب الشيوعي الروسي (أمثال بليخانوف - كاوتسكي - تروتسكي - برنشتين) الذين أثبتت الأيام صحة الكثير من طروحاتهم (الكلام لنا).
ويعيب محمود أمين العالم على الشيوعيين تعجلهم في صناعة التاريخ قائلاً (ينبغي مراعاة العناصر الرأسمالية في مشاريع التنمية لمراعاة التنافس الفردي والإنتاج السلعي، والتفكير في نمط تنمية جديد يستوعب كل القوى الاجتماعية العاملة ويتفق مع احتياجات السوق العالمية وتغير طبيعة الارتباط بالسوق العالمية من تبعية مطلقة إلى سعي للتكافؤ، على أن يرتبط ذلك بالرؤية الخاصة للظروف الخاصة للمجتمع الخاص وللوضع العالمي الخاص، لكشف الصيغ الخاصة والمناسبة التي تحتاج إلى حزب وتحالف مجتمعي من أجل إحداث التغيير).
ويشدد أمين العالم على أن يلعب الشيوعيون دور القوى الدافعة في المجتمع من أجل تطويره وتثقيفه وتجميعه وحشد طاقاته لتحقيق هيمنة مجتمعية وليس سلطوية وضرورة تأهيل المجتمع، فالتغيير ليس عملاً انقلابياً بل هو عمل نضالي وتاريخي مستمر.
وحول الممارسات الأيديولوجية باسم الاشتراكية يؤكد محمود العالم أن التجربة السوفييتية كانت تجربة تنمية ذات طابع رأسمالي في الدولة، وعلى رأسها ناس يتكلمون عن الاشتراكية، في حين أن الاشتراكية في جوهرها علم، وفي حال تناقض الاشتراكية مع الحقائق العلمية توجب علينا اختيار الحقيقة العلمية. فالحقيقة العلمية تدعو إلى التنافس في الإبداع، واحترام الاختلاف والتمايز، والمواهب بين البشر ينبغي احترامها وتهيئة الظروف الديمقراطية للاستفادة منها. وهذا التشابه في الخصوصيات والتشابك بالاختلافات هو ما يحقق الدفعة الكاملة لكل التيارات للتغيير والتطور.
فإذا دعت فكرة اشتراكية أو شيوعية إلى نبذ الحافز الفردي على أساس أنه حافز غريزي وأهملت دور الدوافع الذاتية فهي تنافي الحقيقة العلمية للبشر وطبيعتهم. ولابد أن تسقط مَثَلُها مَثَلُ أي فكرة طوباوية. إذاً (لا اشتراكية بدون ديمقراطية، بدون مشاركة وتعدد واحترام حتى الاختلاف). وقد استبعد العالم مفهوم الحزب الأم والقائد باسم ديكتاتورية البروليتاريا، وناقش مفهوم الديكتاتورية من الناحية العلمية، فقالكل نظام في العالم هو ديكتاتورية للطبقة التي تحكمه. والسلطة التي دعا إليها ماركس (سلطة المنتجين) تمهيداً لإلغاء الاستغلال نهائياً من المجتمع كسلطة مؤقتة تقوم بإلغاء ذاتها حين تتحول القوى الاجتماعية كلها إلى قوى للإنتاج والإبداع وينتقل المجتمع بمجمله من عالم الضرورة إلى عالم الحرية المطلقة هو تصور نظري ومحض فرضية قد لا تجد لها طرحاً سياسياً واقعياً مطابقاً، لذا ليس لها صفة الحقيقة العلمية التاريخية أو صفة الحقيقة السياسية المجربة.
ناهيك بأن هذا المصطلح قد تحول في الممارسة إلى حالة قمعية كرست (ديكتاتورية قيادة الحزب وبيروقراطيته واستبداديته، وفقدت الطبقة العاملة في ظله قدرتها على الإنتاج والإبداع. ولذلك فإن هذا المصطلح ينبغي أن يغير أساساً حتى لا نتورط في الدلالة وحتى لا تختلط المفاهيم بالممارسات والحلم بالواقع). ويؤكد محمود العالم أنه لم تكن هناك أي مشكلة بين اليسار الشيوعي والتراث العربي الإسلامي. ومن عالج التراث بعمق واحترام عميق هم الشيوعيون والماركسيون. وأكد أن الفكر الماركسي استوعب التراث بشكل عقلاني نقدي وجدلي، ودرس كل المذاهب الإسلامية وفهمها واستخلص منها دلالتها التاريخية والاجتماعية دون تمجيد أو تقديس أو تجميل أو انتقاء.
كما أن اليسار الشيوعي لم يصدر أي وثيقة ضد الدين أو تبنى الإلحاد، فإنجلز يقول إن للدين ثلاث دلالات (السلوان والدعم الأيديولوجي للسلطة ودلالة ثالثة ثورية). وكل الأديان كانت ثورات عظمى، ثم امتطيت لصالح قوى السلطان، أو على حد قول ابن خلدون من حركة دينية ثورية إلى ملك عضوض. ولقد قاوم الشيوعيون طوال تاريخهم فكرة توظيف الدين لمصالح سياسة دنيوية واستغلاله من قبل السلطان لتغييب رؤية الشعوب لواقعها الحقيقي.
وفي طرح فكرة اجتهاد يساري عربي جديد يؤكد العالم ضرورة التجديد لنصوغ من الواقع الجديد احتياجاته في ضوء الحقائق العالمية (العلمية والاقتصادية والسياسية)، ويطلب تحليل الواقع الملموس لاكتشاف قوانين اللحظة التي لن توجد في النصوص المحدودة والثابتة لأن الوقائع متجددة وتاريخية، بل متجددة لأنها تاريخية. ويطلب محاورة الواقع والمجتمع من خلال المنابر والصحافة ووسائل الحوار الثقافية والمجتمعية. ويستشهد العالم بابن خلدون (النصوص محدودة وثابتة، أما الوقائع فمتجددة، فلابد أن نحاور الواقع ولا نلوي عنق النصوص أو نغيرها). وهنا أجدني (والكلام لمعد هذه المقالة) مضطراً للاستشهاد بإنجلز في سياق بحثه عن الحقيقة قائلاً (فالحقيقة ليست مجموعة من العقائد الجامدة الجاهزة التي ليس على المرء بعد اكتشافها إلا أن يحفظها عن ظهر قلب، الحقيقة موجودة في مكان آخر في مجرى المعرفة نفسه، في التطور التاريخي الطويل للعلم الذي يصعد من درجات دنيا إلى درجات أعلى فأعلى في سلم المعرفة دون أن يبلغ مايسمى الحقيقة المطلقة. هكذا يجري سواء في ميدان المعرفة الفلسفية أم في ميدان أي معرفة كانت وكذلك في ميدان النشاط العملي). عن مجلة أدب ونقد، يونيو 2010 عدد 298.
محمود أمين العالم في حوار ينشر لأول مرة.
د.نزار عكرمة
--------------------------------------------------------------------------------
النور 449 (25/8/2010)