فاروق السامعي
عدد المساهمات : 174 تاريخ التسجيل : 14/08/2010
| موضوع: طريف سردست وحمدي الراشدي لماذا نسعى للايمان ونؤمن بالخرافات؟ 09/12/11, 04:50 pm | |
| لماذا نسعى للايمان ونؤمن بالخرافات؟
منذ الحضارات البدائية الاولى، ظهرت الاديان كوسيلة لتشريع التغيرات، ومنذ ذلك الوقت بقيت جزء لايتجزء من ثقافة الانسان. قدرة الاديان على البقاء، على الرغم من تطلبها الوقت والمال والتضحيات، ادى الى تغيير في نظرة بيلوجيين التطور، ليرتفع تساؤلهم عن مواطن الافضلية التي تحققها. كيف يمكن للمرء تفسير اسباب قبول المؤمنين بالتضحية بوقتهم وطاقتهم من اجل اجراء طقوس، في ظاهرها لاتضر ولاتنفع وليس فيها ربح منظور لبقاء النوع. الابحاث الاخيرة تعطينا جواب محتمل على هذه المعضلة، وعلى اسباب قبول الانسان بالايمان والسعي اليه، على الرغم من افتقاده للبراهين الصلبة او المنطق.
يجلس المؤمنين في ارتخاء وطمأنينة في مساجد ضخمة ومرتفعة، مزخرفة بالنقوشات المنحوتة على الاحجار بطريقة فنية بارعة، تخلق مشاعر الرهبة والعظمة، ليس اقلها بسبب الاختلاف عن الحياة الفقيرة والرتيبة خارج المسجد، يضاف اليها مشاعر الانضواء تحت جماعة تتحرك بنمط واحد كالاوركسترا الكبيرة، وتعلوا اصواتها في نغمة واحدة تخلق الرضى والشعور بالذوبان في جمع كبير. ذات الغلو نجده في الكنائس والمعابد الاخرى، من اجل خلق الانطباع المطلوب بالصغر والضعة في نفس المؤمنين. مثل هذه المعابد نجدها منتشرة في كل البقاع. منذ نشوء الحضارات القديمة الاولى، نشأت الاديان واحاطت بالانسان من كل الجهات، لتصبح جزء من حياته اليومية.
لماذا يسعى الانسان الى خلق الاديان ومن ثم الايمان بما خلقه، مضحيا في سبيل ذلك بالمال والوقت وحتى بحياته، من اجل فكرة عن آلهة لم يتمكن احد من البرهنة على وجودها؟ عند التفكير بهذا الثمن الذي يرضى الانسان بدفعه للقيام بالطقوس المرافقة للاوهام الدينية، يظهر وكانه لايوجد تفسير بيلوجي ومنطقي للربح الذي يحصل عليه الانسان ويدفعه لابتداعها، ولماذا تبقى هذه الاديان مستقرة وتحظى بشعبية طويلة الامد قبل ان تختفي، ليحل مكانها دين جديد؟
في هذا العام يحتفل العالم الاكاديمي بالذكرى 150 لنظرية داروين، التي حصلت على اعتراف واسع في كل الاوساط العلمية، وتأسس على قاعدتها فرع " بيلوجيا التطور". هذه النظرية تؤكد ان الانسان هو كائن بيلوجي، تنطبق عليه ذات القوانين التي تنطبق على بقية الكائنات البيلوجية. هذا الامر يترتب عليه انه من الضروري ان يوجد تفسير منطقي وبيلوجي لسلوكنا، ولكن كيف يمكن تفسير قبول الرهبان والراهبات الكاثوليك والهندوس بالامتناع عن العلاقة الجنسية بصورة خيارية؟ كيف يرضى الانسان بالتضحية بالتناسل، وهو الغريزة الرئيسية للكائن الحي؟ المجتمع الذي يتعاطى الرهبنة يفترض به ان ينقرض، ولكن ذلك لايحصل عمليا، وتوجد العديد من الامثلة عن هذه السلوكيات الدينية والتي، من الزاوية البيلوجية، يفترض انها تجلب الضرر للفرد.
عبر العصور حاول العديدين تفسير اسباب ظهور الاديان وبقاءها على قيد الحياة: لتقوم بتفسير مالايمكن تفسيره، مثلا التساؤلات عن الكون او لجلب الطمأنينة للنفس والجماعة واعطاء هدف، كالقول ان علينا ان نحارب او نبني. الاديان، يمكنها ايضا ان تخفف من المعاناة عند العزاء او المرض، وتجعلنا نستكين وننام مطمئنين، او تخدر قلقنا عند الحاجة للخروج الى الحرب، مجازفين بأرواحنا.
في السنوات الاخيرة قدم العديد من العلماء من مختلف الفروع العلمية، (الاعصاب، الاجتماع، الكيمياء البيلوجية) معطيات محددة ساعدت بيلوجيين التطور في تقديم مجموعة من الاقتراحات، تفسر الافضليات التي تقدمها الطقوس الدينية، من الناحية البيلوجية. حسب هذه النظرة، يظهر الدين كنوع من السمنت الثقافي يقوم بلصق افراد المجتمع الى بعضهم البعض، ليحولهم الى كتلة واحدة. الدين يجري تصميمه على اساس سلوك " مكارم الاخلاق" ، ولكن جوهره هو خلق أطر تجعله يعمل كمنظومة الاستشعار المبكر من اجل اظهار من يمكن الوثوق به ومن يجب الحذر منه.
الملاحظات اظهرت ان من الاهمية بمكان ان تتطلب الطقوس تضحيات كبيرة من اتباعها، إذ لو كانت الطقوس من النوع السهل ولايحتاج الى تضحيات ليجري تحديد من يمكن الوثوق به، فسيكون من السهل تمرير الخداع. كلما زادت كلفة البرهنة على الثقة، كلما اصبح من غير المربح خداع المنظومة. بمعنى اخر، فإن الطقوس الدينية كانت تعمل كفيلتر من اجل كشف العناصر الغير ملائمة وعزلها. بشكل رئيسي، اظهرت الدراسات ان الناس ينظرون الى الشخص المؤمن على انه اكثر صدقا ومدعاة للثقة من المتوسط العام، والله الاخلاقي الموجود في الاسلام والمسيحية واليهودية يلعبون دور ضامن إضافي لصحة نوعية المؤمنين التي يقدمون انفسهم بها. وهذا الامر يوضح اسباب موت الاديان القديمة الاكثر بساطة، مع تطور المجتمعات وانتقالها الى مراحل اعقد، إذ يصبح هناك ضرورة لطقوس اكثر تعقيدا، الامر الذي يؤدي الى تخلي الناس عن معتقداتهم القديمة للدخول في معتقد جديد اكثر تطورا، كما يوضح اسباب سرعة تخلي الاديان البسيطة عن معتقداتهم القديمة، في حين تصمد الاديان المعقدة امام الاديان الاخرى بنفس مستوى التعقيد.
المختصين في بيلوجيا التطور Azim F Shariff & Ara Norenzayan, من جامعة كولومبيا البريطانية في كندا يوضحان ان " وجود وعي بوجود إله قادر على الرؤية ويرانا، له تأثير قوي على المؤمنين بهذا الإله، تماما كتأثير الامتلاك الفعلي للقدرة على الرؤية عند غير المؤمنين والمؤمنين، على السواء.
على الخلاف مما هو لدى بقية البشر، فإن وجود قوى المراقبة الفوق طبيعية في وعي المؤمنين، يجعل المؤمن يعتقد ان سلوكه تحت مراقبة دائمة، وبالتالي سيكأفئون او يعاقبون حتى في ظل إنعدام وجود شهود من البشر.
Richard Sosis, من جامعة كنكتوت الامريكية، قام بدراسة بضعة تجمعات (كيبوتزات) في اسرائيل، واكتشف ان التدين يتوقع منه ومطالب بسلوك التضامن والتعاون بين افراد الجماعة اكبر من غيره. الكيبوتزات هي جماعات تعاونية منظمة لها بنية اجتماعية واقتصادية مستقلة، بغض النظر عما إذا كان اعضائها لادينيين او مؤمنين. الباحث قام بإختيار عضوين من الكيبوتز نفسه للمشاركة بلعبة ذكاء اقتصادي، جرى تصميمها لاختبار القدرة على التعاون ومستوى التضامن. وبدون ان يعلم المشاركين شخصية الشخص الاخر الذي يلعبون معه ، يجري اعلامهم بوجود ظرف مشترك يحتوي على مئة شيكل، وعليهم تقرير حجم المبلغ الذي سيأخذونه بدون ان يعلموا مقدار المبلغ الذي قرر الاخر اخذه. إذا تجاوز مايأخذونه مع بعض مبلغ المئة شيكل ، لايأخذ احد منهم شئ، وتنتهي اللعبة. على العكس، إذا كان المبلغ اقل من المئة شيكل، يحق لهم الاحتفاظ بالمبلغ ويضاف الى الظرف 50% من الباقي فيه، ليتقاسموه مجددا. هذا يعني انه طالما اقتصر المشاركين على سحب مبالغ صغيرة سيزداد الاصل المشترك ويربحون، غير ان المشكلة ان لااحد منهم يعلم فيما إذا كان الاخر يتعاون ام يخدع.
النتائج اظهرت ان اعضاء الكيبتوتزات المتدينة يسحبون مبالغ اقل بشكل واضح بالمقارنة مع اعضاء الكيبوتزات الغير متدينة. والمثير ان الدراسة اظهرت وجود اختلاف بين سلوك النساء وبين سلوك الرجال من الكيبوتزات المتدينة، يعكس ان هذه الرؤية الاخلاقية تخص الرجال وحدهم، وهذا له اساس في الطقوس ذاتها. في الطقوس اليومية نجد ان من واجب الرجال المشاركة ثلاثة مرات في اليوم في صلاة الدعوات في الكنيس، بمعدل 1،5-2 ساعات يوميا، في حين ان النساء ليسوا ملزمين بهذا الطقس. لذلك نرى ان الرجال الذين يواظبون على حضور الصلاة يسحبون مبالغ اقل بالمقارنة مع الغير متدينيين والنساء. وحتى المؤمنين الذي لايواظبون على الصلاة نجد ان سلوكهم لايختلف عن الغير متدينين والنساء من الكيبوتزات المتدينة.
هذا الامر يبرهن على ان الوقت المصروف على الطقوس الطويلة يقدم عائد على شكل تحفيز التضامن والتلاحم والتعاون، وبذلك يقدم افضلية للجماعات المتدينة لتتفوق على الجماعات الغير دينية، من حيث انها تجعلهم جماعات متماسكة في الصراع على البقاء.
دراسات اقدم جرت في الولايات المتحدة، تؤكد ان الطقوس بذاتها اداة تحسن قدرة الجماعة على البقاء. عند دراسة ومقارنة طول فترة بقاء الجماعات الدينية بالجماعات الغير دينية، ظهر ان الجماعات الدينية تصمد فترة اطول. إضافة الى ذلك تُظهر الدراسة ان الجماعات الدينية تملك قواعد سلوكية تصل الى ضعف ماتملكه الجماعات الغير دينية، مثلا طقوس الصيام الجماعية والالتزام بترك الخمور. والملاحظ انه كلما تعددت القواعد والطقوس كلما ساعد ذلك على امتداد فترة تماسك وبقاء الجماعة.
كيف يكون ذللك ممكنا؟ المشكلة الاكبر التي تواجهها التجمعات المبنية على الثقة هي مشكلة الطفيليين والماكرين المتلفعين بثياب التقية، الذين يشكلون تهديدا حقيقيا لقواعد وجود الجماعة. النصوص المقدسة التي تطالب بطقوس اكثر وقواعد اصعب، يمكن ان تكون بذاتها طريقة ناجحة لتنظيف الجماعة من المتطفلين والكسالى، الذين لايضيفون شيئا للجماعة. في ذات الوقت تخلق القواعد والطقوس الثقة بين ابناء الجماعة، عندما يرون ان الجميع يراعون القواعد نفسها بدون تمييز.
في المضمون تقدم لنا الطقوس، التي في ظاهرها مضيعة للوقت، اداة لقراءة الاخرين ومعرفة مدى صدق الاشارات السلوكية الصادرة عنهم. إذا نظرنا الى تيس جبلي مثلا نجد انه احيانا يقفز في الهواء عاليا مستعرضاً عضلاته بدون سبب مباشر. وعلى الرغم من ان حركته في ظاهرها لامعنى لها، الاانه يوجد مغزى. انه يخبر الحيوانات المفترسة المحتمل وجودها انه حيوان يملك طاقة فائضة، وان التفكير بمهاجمته مضيعة للوقت. بمعنى اخر فإن قفزة التيس تقول للحيوان المفترس:"ابحث عن طريدة اخرى".
لنعيد من جديد قراءة المثال السابق. ان التيس الذي يقفز لايعلم انه يقفز من اجل اخبار الحيوان المفترس بأنه قوي، إنه يقفز بدوافع داخلية، ولكن هذه الدوافع صدف انها اعطت اشارة للقوة التي تقوم بعملية " الاصطفاء" مما جعل هذه الصفة تبقى في القطيع وتنتشر، في حين يجري تصفية من لايملك هذه الصفة، او من فقدها لضعفه. بهذا الشكل اصبحت هذه القفزة تخرج عن القلب، حقيقية، ولهذا السبب انقذت حياة التيس، واستحقت ان تبقى على الرغم من انها قفزة بلهاء وتستهلك الموارد.
هذا النوع من السلوك يمكن بكل وضوح ان يكون قد نشأ من خلال الانتقاء الطبيعي، الذي اشار اليه داروين، بدون ان يكون التيس قد فهم لماذا كان يقفز، ولكن يكفي وجود حيوان مفترس يرى الحركة ويفهمها على انها دليل قوة. في الحقيقة ، ومن اجل مصداقية عالية للاشارة الصادرة عن التيس، يجب ان لايكون التيس على وعي بالنتائج التي ترتبت على قفزته. الحيوان المفترس يجب ان يكون واثق من انه عثر على اشارة صادقة تعطيه القدرة على تقدير الوضع، والقفز عاليا في ظروف قطيع يعيش في منطقة محدودة الموارد هو تبذير بالطاقة. بمعنى اخر، كلما كان السلوك مكلفا كلما كان اكثر مصداقية، وهذا الامر ينطبق ايضا على الطقوس الدينية والسلوك الديني. هنا ايضا يجب ان يكون السلوك صادر من القلب، حتى يمكن تلقي افضل الاشارات للتعرف على درجة مصداقيته وتثمين صاحبه.
وجود اهمية عملية عالية لوجود الطقوس والكتب المقدسة يتاكد ايضا من خلال المقارنة بين الاديان والثقافات. كلما كبرت المجموعة السكانية كلما زاد سعيها وقابليتها للايمان بإله اخلاقي، تحوم تعاليمه بنشاط على الوصاية والتحكم بالسلوك الاخلاقي للفرد، كما هو الحال في ابيهودية والاسلام.
اذا نظرنا الى العصور القديمة، قبل 11 الف سنة، عندما تحول الانسان لاول مرة من الرعي الى السكن الحضري الزراعي، نجد ان هذا التحول جلب معه تحول في حجم المجموعة ايضا لتنشأ اول المدن الكبيرة ، مدينة Catal Höyük في تركيا الحالية، والتي وصل عدد سكانها الى 10 الف نسمة. في مثل هذه المدينة يمكن للدين ان يلعب دورا هاما لتثبيت التلاحم بين السكان. في نمط الحياة السابقة، كان الجميع يعرفون بعضهم البعض، ويرتبطون برابط القرابة مع بعض، ويشعرون بالطمأنينة والانتماء، في حين ان المدينة الجديدة اصبحت تمتلئ بالغرباء، وعلى الاخص في السوق، حيث يجري اختبار الثقة، وهنا تظهر الحاجة من اجل تطوير اداة لكشف الغش والخداع. هذا الامر نستمر اليوم برؤيته في الاسواق الشرقية التي تستخدم الرموز الدينية بكثرة من اجل اجراء الصفقة. اغلب الباحثين متفقين على ان ظروف المدن هي التي حولت القناعات الفردية القديمة ومنظومة الشامان الى ديانة منظمة وتملك طقوسها ورموزها، من اجل التلائم مع ظروف الحياة في المدينة.
العقل البشري يسعى للايمان
ولكن يبقى السؤال الرئيسي: لماذا نملك خاصية الايمان ونسعى للرضوخ لسلوك ديني؟ على هذا السؤال يجيب علماء الجملة العصبية الدماغية. الدراسات تشير الى ان الانسان يملك منظومة مماحكة عقلية تجعلنا مهيئين للايمان بقوى غير طبيعية. في مدينة بلفاست من ايرلندا الشمالية تمكن الباحث Jesse Bering, من جامعة كوين، ان يبرهن على ان ابتداع قصة وجود "شبح" يمكن ان يقلل الغش عند الطلاب. التجربة قامت على إجراء امتحان لطلاب احد الصفوف. قبل الامتحان جرى اخبار نصف الطلاب بأن شبح شخص قد مات من فترة قصيرة تمت رؤيته يتجول في صف المدرسة (في بيئة تؤمن بمثل هذه الحوادث). المعطيات تشير الى ان هذا النصف كان اكثر اخلاقية من البقية.
وحتى إذا كان الطلاب من غير المتمسكين بالتعليمات الدينية او غير المؤمنين بالقوى الخارقة، يظهر انهم ايضا يتأثرون بقصة الشبح المختلقة ويقعون تحت تأثير نشوء مفاجئ لفكرة " قوة عليا" تراقبنا وتحكم على تصرفاتنا، تماما وكأن هناك انسان يراقبهم من الخلف.
في تجربة اخرى قام الباحث السابق بدراسة البدايات التي يبدأ فيها الطفل بالايمان بقوى خارقة. لقد قام بتأليف شخصية خيالية عن اميرة غير مرئية اسما آليس. وروى القصة في صف الاول الابتدائي. بعد ذلك جرى اخبارهم الى انه لايجوز فتح احدى العلب المعينة في غياب الكبار. بالمقارنة مع ماقبل رواية القصة، انخفض عدد الدين فتحوا العلبة الى حد كبير. بهذا الشكل يكون الاطفال قد ربطوا عقليا سلوكهم مع القوة الخارقة (الاميرة آليس) منذ عمر السبعة سنوات. الباحثين اخبروا الاطفال ان الاميرة آليسا قادرة على مساعدتهم في اختيار العلبة الصحيحة من بين علبتين. عندما يمد الطفل يده لاخذ احدى العلبتين يحدث شئ غير متوقع، مثلا تقع لوحة معلقة من على الحائط. الاطفال الصغار يفسرون الامر على ان " اللوحة وقعت لانها لم تكن مثبتة جيدا"، في حين ان الاطفال الاكبر سناً وبنسبة 80% يفسرون الامر على انه " الاميرة آليس تكلمت اليهم واخبرتهم ان عليهم ان يختاروا العلبة الاخرى".
كيف يمكن ان يوجد جذور لسلوك يسعى الى ربط الظواهر بقصص خيالية، نشأت في ظروف لاعلاقة لها بالظاهرة؟ العلماء يعتبرون ان الرغبة في رؤية "معاني واهداف في كل شئ"، لها جذور في منظومتنا العقلية التي تطورت وجرى تجربتها واختيارها في الجماعة الاجتماعية. الانسان كائن متميز في عالم الحيوان، بفضل تخصصه في فرع يعتمد على الوعي كخاصية رئيسية من خواص الافشليات، حيث نعتمد على استقبال المعلومات القادمة من محيطنا ، بما فيه المحيط الاجتماعي، ومعالجتها واستخلاص النتائج المناسبة منها.
منذ عام 1976 تمكن البسيكولوجي Nicholas Humphrey, من البرهنة من خلال دراسة جرت على الشبمانزي الافريقي، ان الحياة في جماعات اجتماعية تتطلب من الفرد، طاقات دماغية اكبر من الطاقات التي نحتاجها لحل اكثر العمليات التكنيكية تعقيداً. فيما بعد جرى تأكيد هذه النتائج مرارا، واليوم فإن التحديات العقلية، مثل التمكن من حساب شبكة العلاقات الضرورية التي يجب اخذها بعين الاعتبار، سلبا وايجابا، من اجل تلافي معضلات في سلوكنا القادم، تعتبر قوة كبيرة في تحريض بناء وتركيب وتشكيل قدراتنا العقلية في مسيرة تطور منظومتنا العقلية الى صورتها الحالية.
هذه المنظومة العقلية الموجودة في الدماغ الانساني، جرى في السنوات الاخيرة دراستها بكثافة. بعض هذه الدراسات جرت على يد البسيكولوجي Pascal Boyer, من جامعة واشنطن الامريكية، حيث يؤكد ان بنية الدماغ هي التي تجعل من ظهور الاديان امر ممكن. باسكال بيير لايقصد ان الدماغ يملك " مركز إلهي" وانما على العكس تماما، تظهر الدراسات ان ان النشاط الديني في الدماغ يتوزع على عدد من مناطق الدماغ، وهي مناطق تشارك في نشاطات اخرى ايضا. ان باسكال بيير يفسر الامر بأن " منظومة التفكير العقلي" هي التي نشأت بطريقة تجعلنا قابلين لتقبل الاشكالات وطريقة التفكير الديني، تماما كما هو الحال في قابليتنا للاعجاب وقبول الموسيقى والاهتمام بالسياسة او السعي لإقامة علاقات عائلية.
احدى اهم الاكتشافات هي التي تظهر ان الدماغ له القدرة على خداعنا، الى درجة تجعل المؤمنين يقومون بأعمال تتعارض مع ايمانهم نفسه. من الامثال على ذلك ان يجلس المؤمن بالإله الابراهيمي (المسلم والمسيحي واليهودي)، على ركبتيه ويرفع رأسه الى السماء، ويبدأ في التفاوض مع الله، كان يقول " إذا شفيتني، فأنني سأقوم ببناء جامع"، في ذلك يقدم لنا الدماغ الله وكأنه بشر مثلنا وله نفس عقليتنا، في حين ان ذلك يفترض ان يتطابق مع النظرة الوثنية الى الله. ان مفهومنا الواعي عن الله يتعارض تماما مع مفهومنا الغير واعي، والذي نراه في السلوك الشائع للاغلبية. المثير ان المؤمنين في اغلب الثقافات يكررون السلوك نفسه، إذ وعلى الرغم من اختلاف الاديان نجد ان كيفية رؤية الفرد لإلهه هي نفسها. احدى الخصائص الاخرى للدماغ والتي لها علاقة بخلق تصوراتنا الدينية، اننا نتذكر الاحداث والقصص بطريقة افضل إذا كانت تتعارض مع الواقع الفيزيائي. مثلا احداث الاسراء والمعراج، او السير على الماء او ان يكون غير مرئي ويخترق الجدران او قصص السحر والسوبرمان. دماغنا يلاحظ على الفور الامور الغير طبيعية، ويحفظها، ويتتداولها، خصوصا في المجتمعات السابقة، حيث كان سرد القصص المتوارثة في الامسيات وعلى طريقة الحكواتي، هي الاسلوب الاكثر شيوعا لتمضية الوقت، على مستوى المدينة او القرية او العائلة.
التطور هو الذي اعطى الاديان صورتها الراهنة
القصص الدينية التي نراها اليوم، يمكن النظر اليها على انها النسخة الاخيرة او المرحلة الاخيرة في تطور سلسلة من الروايات كانت تهدف الى التقاط انتباهنا، وساهمت في تحسين ذاكرتنا، لتصبح بذاتها اداة " الانتقاء الطبيعي". إذا اضفنا الى ذلك خاصيتنا على تصوير الامور وكأنه " لكل شئ معنى وهدف" يمكن ان نفهم اسباب انتشار ظهور الالهة والارواح ذوي المواصفات البشرية في جميع الثقافات بغض النظر عن صورة الدين الذي جرى انتاجه..
من هذه الزاوية يمكن النظر للاديان على انها " فكرة ثقافية"، وبالتالي ظاهرة طبيعية، يجري توريثها من مستوى واعي الى مستوى اخر. يفسر فلاسفة التطور، ومنهم Daniel Dennett, من جامعة توفتس في ولاية ماسساتشويتس الامريكية ان هذه الافكار يمكن ان تكون قد تطورت في الوعي الجماعي للجماعة وجرت إعادة صياغتها لتعكس منظومتنا العقلية بمختلف خصائصها، والنقاط التي جذبت انتباهنا اكثر هي التي بقيت في الذاكرة حية وبالتالي امتلكت فرصة الانتقال الى الاجيال اللاحقة وحققت اكبر انتشار.
مثلا يمكن ان نأخذ فكرة " الحياة الخالدة". عادة تسوق هذه الفكرة على انها الجائزة التي تغري بها الاديان اتباعها، وهي فكرة مصممة على الاغراء وفي ذات الوقت إخفاء انها تموه القدرة على التأكد من وجود الاله. " منح" الحياة الخالدة كجائزة، هي بعكس فكرة بقية الاديان الاخرى التي تطالب " وتأخذ" التضحيات والهدايا من اجل إعطاء محصول افضل، او للحصول على ولادة موفقة، ومثل هذه الديانات تخاطر بأن يقوم اتباعها بالتحول الى ديانة اخرى، الى ديانة تملك إلها اكثر كرماً واقل حاجة للعطايا المادية اليومية والمُنظمة، وعندها فإن إبتداع فكرة " الحياة الابدية" قد قدم جاذبية خاصة، وبالتالي شكل افضلية للدين الذي تعود حقوق تأليف الفكرة اليه.
بهذا الشكل، نرى ان الدين هو احد اقوى القوى التي شكلت البشرية، بما فيه اليوم، حيث تنتصب العديد من المطاحنات على خلفية دينية. ان تتمكن الابحاث اعلاه ان تشير الى اننا اكثر ذكاء، عندما يتعلق الامر بتفسير القوى الطبيعية التي تقف خلف ميكانيزم ظهور الدين، يقدم لنا الامل في ان نتمكن من فهم هذه القوى الهائلة بصورة افضل، ونتمكن من تحييدها او استخدامها لمصلحة الخير الانساني.
على خلفية هذا الاستعراض لابد من الاشارة الى ان " الاصطفاء الطبيعي"، يحصل بمستويين: المستوى الاول: الاصطفاء الطبيعي على صعيد الافراد، وهو الشكل الشائع المتفق عليه، حيث الفرد الذي يحصل بطريق الصدفة على خصائص افضل مما لدى بقية افراد المجموعة، يتمكن، غالبا، من البقاء على الحياة افضل من بقية الافراد، ويجني فرص اكبر لنشر جيناته على قدر اكبر من الاناث. في حين ان ذوي الخصائص الاقل افضلية غالبا هم الذين يتعرضون للموت مبكرا.
المستوى الثاني: الاصطفاء الجماعي، بعض العلماء يشيرون الى ان الاصطفاء يمكن ان يتم للجماعة بكاملها، إذا كانت تملك افضلية تطورية عن بقية الجماعات، تسمح لها بالذات بالبقاء على الحياة في الصراع مع الجماعات الاخرى. عوضا عن ان تكون هذه الافضلية بيلوجية حدثت على المستوى الجيني، يمكن ان تكون ثقافية، ليصبح الاختيار بين الثقافات، فالجماعة التي تملك " الدين الاكثر فعالية" تحيا، بغض النظر عن الجينات على المستوى الفردي.
لهذا السبب نرى تننوعا شديدا بين ماانتجه الانسان من اديان او ثقافات إعتقادية، تختلف كثيرا فيما بينها، ولاتزال مثل هذه الاديان تنشأ حتى اليوم وتجد رواجا كبيرا. بعض هذه الاديان ستبدو غريبة لثقافة اخرى بعيدة عنها، وقد تكون غير مفهومة على الاطلاق. هنا بعض الامثلة على هذه الاديان
Jainsmen, احدى الاديان العريقة والقديمة في الهند، ولاتملك إلها على الاطلاق. تقول هذه الديانة ان جميع الاحياء متساويين، ولذلك نجد ان المؤمنين بها نباتيين، من اجل الحفاظ على حياة الاحياء. وعلى الرغم من ان هذه المجموعة الدينية ناجحة اقتصاديا للغاية، نجد ان كهنة هذه المجموعة يعيشون في فقر مدقع، حسب عقيدتهم. رجال الدين لايحق لهم امتلاك اي شئ على الاطلاق، وبعضهم لايمتلك حتى الملابس التي تغطي اجسادهم، ولذلك نراهم عراة تماما يسيرون في الطريق.
للوهلة الاولى قد تبدو هذه الديانة غير قابلة للحياة، وكان عليها ان تنقرض من عصور، خصوصا ونحن نعلم ان الكهنة ورجال الدين عادة يصبحون الطبقة الاكثر غنى والاسرع استغلالا للدين. حسب عالم بيلوجيا التطور الامريكي David Sloan Wilson, من جامعة نيويورك، يملك هؤلاء الكهنة وظيفة غاية في الاهمية بالنسبة للمجتمع " كشرطة اخلاقية"، تماما كما هو حال "الهيئة" في دولة الوهابية السعودية، حيث يسرحون في الطرق بين اتباعهم ليذكرون الناس بضرورة اتباع القيم الاخلاقية. الانتماء الى عضوية " الشرطة الاخلاقية" في هذه الديانة، على الرغم من انه لايحمل في ذاته اية فائدة مالية، على العكس مما هو الحال مع مطاوعة الوهابية السعودية، الا انه يحمل قيمة اجتماعية وروحية كبيرة، ويلقى احتراما كبيرا من جميع فئات المجتمع، الذين يحظون بشرف كبير عند زيارة افراد هذه المجموعة لهم في بيوتهم، حيث يتلقون الطعام والشراب فقط. بهذا الشكل تكون هذه المجموعة الوسيلة التي تصهر الجماعة وتخلق وحدتها وتضامنها، وتؤكد قيمها الاخلاقية والسلوكية، وتحافظ على تميزها وخصوصيتها، وبالتالي تحقق الفائدة التي تستحق تضحيات المجتمع. هنا يمكن تقديم هذه الجماعة كنموذج على الاصطفاء الجماعي.
يمكن طرح مثال اخر على كيفية نشوء الاديان، من خلال طرح كيفية ظهور دين جديد وصغير. عبر تاريخ البشرية ظهرت الملايين من الاديان الصغيرة ، والتقديرات تشير الى احتمال نشوء مابين دين الى دينين يوميا، تعيش اقل من عشرة سنوات. الدين يمكن ان ينشأ بعدة طرق، واحيانا بطرق غير متوقعة وسريعة.
احدى الامثلة المثيرة للدهشة هو مايسمى " عبادة جون فروم" John Frum Cult, والذي ظهر على جزيرة تانا Tanna, من مجموعة جزر Vanuatu, الواقعة في المحيط الهاديء في ظل الحرب العالمية الثانية. " المسيح" في هذه الديانة كان جون فريوم وهو شخصية غير مسجلة في اي ارشيف رسمي. حسب رواية اهل الجزيرة تكلم معهم للمرة الاولى عام 1939 من خلال توارد الخواطر، او بالوحي، حسب التعابير اللاهوتية الاسلامية. بعد بضعة سنوات جاءت القوات الامريكية الى الجزيرة في حربها ضد اليابان بعد مهاجمة اليابانيين لميناء بيرل هاربورت الامريكي عام 1941، وعندها اخذ دين الاله جون فريوم منحى جديدا.
في شمال مجموعة جزر فانواتو، قامت القوات الامريكية ببناء قاعدة بحرية وقام الامريكيين بتشغيل أهل الجزيرة في عملية البناء. سكنة الجزيرة اصيبوا بالدهشة والذهول من الغنى والتكنيك الذي رؤه في القاعدة. لقد اصبحت قصصهم تذكر كيف ان الرجل الابيض لايحتاجون ابدا تصليح مايتعطل وانما فقط يرسلوه الى البحر ليأتي مكانه جديد. اهل الجزيرة الذي كانوا قد اصبحوا مسيحيين بفضل البريطانيين كانت علاقتهم متوترة مع البريطانيين. مع التغييرات الجديدة توقفوا عن الذهاب الى الكنيسة وبدؤا بصنع موديلات عن الطائرات الامريكية والخوذ الامريكية واصبحوا يحملون عصيان على شكل البارودة. لقد فهموا ان سلوك الامريكيين هي طقوس دينية، وهي التي تسبب رضى الاله الامريكي عنهم ليرسل اليهم الغنى. لقد اعتنقوا الدين الامريكي، واصبحوا يصبغون او يوشمون صدورهم بتعبير "USA". عام 1957 جرى الاعتراف بدينهم رسميا، ولازال موجودا حتى اليوم.
| |
|