في معادلة الأنسنة
هل مايزال الإنسان هو الرجل والمرأة هي الآخر؟
فاروق السامعي
اعتقد أرسطو أن النساء رجال ناقصون، وأنهن كائنات إنسانية تفتقر إلى ماهو جوهري في طبيعة الإنسان المتمثل بالقدرة على التفكير وإن وجد ذلك فهو أدنى من قدرة الرجل التفكير بطريقة مميزة انسانياً،ولكن طبيعتها ووظيفتها تنحصران في التناسل فقط.
وهي نفس التصورات التي اعتنقها توما الاكويني في القرن الثالث عشر وأضاف إليها روسو اعتقاداته في القرن الثامن عشر والتي تذهب إلى انهيار المجتمع إن لم تتربّ النساء منذ الصغر على الخضوع للرجال في حين اعتبر كانط النساء غير قادرات على أن يكن اشخاصاً اخلاقيين كاملين حيث إن الاخلاق اساس اعتمادها الكلي العقل والنساء ناقصات عقل قبل أن يعلن فرويد في حقل دراسته السلوك الإنساني دونية النساء عن الرجال بسبب نقص تركيبهن البيولوجي.
هذا التأثير الفلسفي في تاريخ الفكر وانماط التفكير كان هو الاعتقاد السائد في تاريخ الفلسفة والفكر وكان يجب على العقل تجاوز هذه الاعتقادات والتخلي عن اعتباراته السابقة التي تتعامل مع القوى النسائية على كونها قوى سوداء ولا عقلانية وعاطفية وانفعالية وجسدية خاصة والتراجع عن التوصيفات المسقطة عليها في كينونتها الناقصة والعاجزة والخطرة كل هذا حدث والمرأة بعيدة كل البعد عن المشاركة والتأثير الايجابي والكتابة في التاريخ الفلسفي والفكري الإنساني مما اسهم بفاعلية في غرس فكرة السيادة الذكورية المستمرة ودونية المرأة واستلاب حقوقها دون مقاومة أو رفض وابعادها التام عن المشاركة الاقتصادية والتملك والامتهان الانتاجي المثمر اجتماعياً.
وقد اعتبرت فيرجينيا هيلد المشاركة النسوية في الفلسفة أداة للمساواة الاجتماعية وتعيد التفكير في الحياة والمجتمع والمعرفة بكل اطيافها وتقول:«إن تحدي السيادة الذكورية لتفكيرنا هو تحدٍ لكيف نعيش وننظم عوالمنا ونبحث عما نعتبره معرفة وفهماً وتقدماً وقيمة» وهي بذلك تطلب من النساء التخلي عن التفكير الانفعالي والتفكير كجسد حتى لا يكون الإنسان هو الرجل والمرأة هي الآخر.
التشريعات قوالب ذكورية محضة
أثار احتجاج كانط دعوة البعض مقاربة الجنس النسوي بالاخلاق رافضاً تماماً مثل هذه المقاربة، بحجة زعمه «أن النساء لا يمكنهن أن يكن اخلاقيات تماماً، نظراً لاعتمادهن على الانفعال أكثر من العقل».
وهذا الافتراض المطلق ـ الذي ذهب إليه كانط ـ ولا يقبل النسبية ولا الشك حينذاك كان أحد الاسباب الهامة التي دفعت بالمجتمع الذكوري الأبوي إلى تقييد حرية المرأة وممارسة الرجل قوته الجبرية عليها خاصة بعد إنهيار مجتمعات الأم ـ وهي مرحلة سحيقة من التاريخ الانثروبولوجي سميت بالعصر الأمومي حيث كانت فيه المرأة تمثل مركز المؤسسة الاجتماعية التي سادت فترة ما من التاريخ الإنساني بعدها صبت كل التشريعات الحياتية في قوالب ذكورية محضة تستمد قوتها من تكتل القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي أسست قوامة الرجل وعظمته اجتماعياً.
ولادة الحركة النسوية
«المرأة لاتولد امرأة، بل تصبح امرأة» بهذه العبارة تستهل الفيلسوفة الوجودية الفرنسية سيمون دي بوفوار كتابها الموسوم بـ «الجنس الثاني» والذي اصبح فيما بعد انجيلاً للحركة النسوية واصبحت العبارة الاستهلالية شعاراً للحركة بمختلف توجهاتها وهذه العبارة إشارة منها لدور المجتمع في صناعة التميز النوعي بل اتهام صريح له في كونه الذي صاغ وضع الأنثى وأوجد هذه التفرقة بسبب إيمانه بخرافة الحتمية البيولوجية في تحديد مثل هذا الوضع الدوني والمنقوص من إنسانيتها.
انقلاب ناعم
في نهاية القرن العشرين ظهرت التجربة النسوية وهي حركة ثورية هدفت أساساً الانقلاب على أحد أبرز معالم التفاوت النوعي الممثل بهرم الجنس ومن ثم الاهتمام الفلسفي بتجربة المرأة بما يعني انقلاباً واضحاً على النظريات الاخلاقية والكانطية والمنفعية.
هذه الحركة لم تكن حكراً على النساء فقط بل شملت كثيراً من المهتمين بالفكر النسوي وتجاربهن الفردية عبر تفنيد علم التشريع ونقد القانون كمؤسسة ابوية تخدم الرجل واستطاعت ايضاً هذه الحركة تجاوز المنحى التنظيري إلى بعد عملي خدمي يولي اهتماماً خاصاً بتطوير وحماية النساء بغرض تمكينهن السيطرة على جنسيتهن أو قدرتهن التناسلية بدلاً من تسليعهن كأشياء جنسية أو تناسلية.
والنسوية هذه الثورة الناعمة المتمردة على فرضية الانساق الاجتماعية الرادكالية أصبحت تمثل تحدياً أو نقداً أو تعديلاً للنظام البطريركي «الأبوي» وتعتبر حركة سياسية تهدف إلى غايات اجتماعية تتمثل في حقوق المرأة واثبات ذاتها ودورها وتوصف كذلك بأنها انساق نظرية لمفاهيم وقضايا وتحليلات تصف وتفسر أوضاع النساء وخبرتهن وسُبل تحسين وتفعيل ذلك وكيفية الأداء الأمثل وهي كذلك ممارسات تطبيقية واقعية ذات اهداف عينية.
استفادت الحركة النسوية من الوضع الذي فرضه مابعد الحداثة في زيادة فاعلية الفينومينولوجية في تناول قضية المرأة باعتبار هذا الأخير منهاج فلسفي يعمد إلى تحليل الخبرة الحية في الواقع المعاش أي استيعاب النسوية عبر تحليل الخبرة العينية للنساء في إطار التميز والوعي بالجنس والجنوسة.
وقد انحصرت اهداف الحركة النسوية في التالي:
1ـ تبيان أن النساء قادرات على ممارسة العلم.
2ـ ازاحة العقبات التي تعيق النساء عن الاسهام في العلم.
3ـ تصحيح المعلومات الخاطئة عن بيولوجيا المرأة.
4ـ نقد قيم العلم وأهدافه ومعاييره ومحاكاته ومناهجه وممارساته.
الليبرالية وثورات التنوير
كان الفيلسوف الليبرالي جون ستيورات ميل هو الوحيد الذي دعا إلى إعمال وتطبيق شرع الليبرالية فيما يتعلق ويتصل بالنساء مثل حقوقهن الكاملة في التعليم والتثقيف والتصويت والمساواة أمام القانون والتصرف في أموالهن وحق الوصاية على اطفالهن واعتبار سيطرة الرجال شكلاً استبدادياً وقوة جائرة وسوء استخدام للسلطة.
هذه الدعوة التي نادى بها ميل خاصة فيما ضمنه كتابه الموسوم بـ «استعباد النساء»وكتابه الاشهر فيما بعد «في الحرية»تأتي على النقيض تماماً من آراء جون لوك الأب الروحي لليبرالية وروسو من خلال الموافقة على نظرية ارسطو القائلة إن العبودية نظام طبيعي بعد أن أضافا إليه عبارة إذا كان مسقطاً فقط على النساء أو التي تذهب إلى اعتبار خضوع المرأة لزوجها شيئاً أساسياً ومطلقاً في الطبيعية وليس لهذا المطلق أي علاقة أو ارتباط بالمتغيرات الاجتماعية وهو ايضاً نفس المنحى التنويري الذي دأب عليه مفكرو تلك الحقبة مثل مونتسكيو وايضاً أوجست كونت وبلزاك.
رغم ذلك أوجدت الروح الليبرالية نضجاً اجتماعياً أسهم بفاعلية في تقويض السلطة البطريركية المفروضة على المرأة وانتشالها من الحرمان ودونية الوضع عبر التعليم والتثقيف وإيجاد فرص اثبات الذات ونشدان الهوية.
على حين كانت أفكار «ستيورات ميل» حول الحقوق الطبيعية والمساواة بين الجنسين بمثابة ثورة خافتة في الدول الأوروبية إبان ثورات التنوير فقد ظلت طبيعة العلاقة بين النساء والدولة غير مدروسة بدرجة كبيرة في نصوص التنوير الأساسية ـ فرنسا وانجلترا ومستعمراتهما أنموذجاً ـ ففي فرنسا مثلاً كان التناقض قائماً بين المساواة العامة للافراد واستعباد النساء من حقوق المواطنة حتى قيام الجمهورية.
لماذا تكون المرأة الآخر
لم تتخلص أوربا مباشرة بثورة التنوير تلك من هاجس التفكير بالمرأة كجسد ملغوم ورغبة مفخخة وعقل منتقص يقول فيشينيو«يجب أن تعامل المرأة كمبولة الغرفة يتم اخفاؤها بمجرد أن يفرغ الرجل منها» في كتابها«طبيعة الجنس الثاني» تؤكد سيمون دي بوفوار رفضها مقولة الحتمية البيولوجية وتذهب إلى القول بـ«ضرورة النظر إلى الوقائع السيكولوجية في ضوء السياق الانطولوجي والاقتصادي والاجتماعي والسيكولوجي، لأن استعباد النوع لأنثاه وقائع بالغة الأهمية. أجل جسد المرأة عنصر جوهري في وجودها في العالم لكن الجسد وحده لايكفي.. لن تكفي البيولوجيا أبداً للإجابة عن السؤال المطروح: لماذا تكون المرأة هي الآخر؟ ولابد من اكتشاف كيف تخلق هذا في سياق تاريخي» وهو ماقادها بعد ذلك نحو الاستفادة من التوصيف الفينومينولوجي للخبرة الشخصية وقيادة نضال النساء من أجل حقوقهن ككيانات بشرية كاملة، وليس كجنس ثانٍ.
صورة المرأة في مرايا الأمة
ذهب مجموعة من المحررين في احدى الافتتاحيات إلى القول«كانت النساء دوماً بمثابة الأرض التي يمكن من خلالها ترسيم حدود الأمة أكثر من كونهن مشاركات نشطات في بناء الأمم» وهو مايتواءم ويتفق مع أفكار كانوا خاصة في مجال التشريع الذي اعتبره حقاً خاصاً للعقلانيين الذكور الذين يمثلون لديه الطبقة الأولى في المجتمع بينما المرأة فهي مستعبدة ومستبعدة لعدة أسباب منها:
انها غير قادرة على التشريع
انها غير مؤهلة للتصويت
حاجتها الدائمة للذكر الأكثر عقلانية منها
غير محتاجة للحكم الذاتي
وقد اعتبرت الكاتبة آن ماكلينتوك أن النساء خاملات رمزيات للأمة منكرة عليهن انعدام العلاقة المباشرة بالمؤسسة الوطنية وزعمت أن الأدبيات التي تدور حول النساء والتوجه القومي في مختلف السياقات التاريخية والجغرافية على مفارقة واحدة بعينها. ففي حين تعد احدى صور المرأة رمزاً قوياً للدولة القومية الحديثة، كان على النساء في الواقع أن يناضلن من أجل حقهن في المشاركة في الحياة السياسية الوطنية».
بينما فسرت جوانادي جروت هذا التناقض الفج في صورة المرأة والواقع الذي تعيشه إلى كونه تعميداً وتأصيلاً لمركزية النوع وتهميشه في الوقت ذاته في مجال السياسة.
الفرق بين المرأة والنساء
ظهر جلياً بروز فارق ما في حديث المجتمعات عن المرأة كذات فردية أو النساء كمفردة جمعية للذوات المفردة خاصة في مجال الحقوق السياسية وصورتها المنعكسة في مرآة الأمة التي تقع في اطارها.
لكن هذاالتباين والتمايز والاختلاف يتركز أكثر في صورة المرأة كذات مفردة مع مثيلاتها في قالب الأمة الواحدة حيث تتسع أو تتقلص مساحة الحرية والحقوق بين ذات وأخرى نتيجة عدة مؤثرات أسرية ومجتمعية وتضيق هذه المساحة كلما كان الحديث عاماً وجمعياً حيث تصبح صورة المرأة مدمجة في اطار الذاتية الجمعية«نساء» مما يسلبها الكثير من الحقوق الخاصة تكيفاً للاسقاط الجمعي العام وقد تنبهت الكاتبة شاندرا موهانتي لذلك التمايز والاختلاف بين الذاتية والعام في صورة المرأة أي بين المرأة والنساء حيث اعتبرت في تفسيرها المرأة تكويناً ثقافياً وايديولوجياً آخر مبنياً خلال خطابات تمثيلية متنوعة بينما النساء ذوات مادية لتواريخهن الجماعية.
وبسبب هذه الضدية في صورة المرأة كذات وهوية دون شراكة وفاعلية في القوالب القومية برزت بعض الدعوات التي تنادي إلى تطوير الذات والشراكة في رسم صورة حقيقية للهوية لذا تطلب الأمر عند الحديث عن اجازة تطوير الذاتيات ضرورة ربطهن بمشروع قومي أكبر يفترض فيه ايجاد هوية وطنية نسائية جديدة والتبرؤ من الهويات الثقافية الماضية.
المرأة مجرد هامش قومي
في احدى الاستخدامات التي تعكس توتراً مشتركاً بين الأهداف الحديثة وغير الحديثة في المشروعات القومية لصورة المرأة في الصين هو اعتبارها موقعاً للجوهر غير المتغير وطهارة الأمة في مواجهة المستقبل غير اليقيني وهو ما أتاح فرصة للنخب القومية ادارة العلاقة غير السوية للتوجه القومي بالنسبة للزمن كعلاقة طبيعية بالنسبة لنوع الجنس وهو مافسرته ديوارا بالابوية القومية والتي اعتبرتها ايديولوجية أتاحت للنخب تحديث الصين مع الاحتفاظ بأحقية أنظمتهم في أجساد النساء.
وهذا يعني أن القوميين المحافظين لجأوا إلى طرق ربط صورة المرأة في الترويج لرؤية الابوية القومية كونها أكثر قدرة على سد ثغرات المشروع القومي باعتبارها جسراً مكانياً وزمانياً بين البيت والعالم، بين القيم القومية القديمة ومستقبل عالمي غير يقيني مما جعل المرأة حبيسة هامش في المشروع القومي.
القانون انطولوجياً
إذا كان القانون انطولوجياً هو نقيض الحرية المطلقة أو نفي لها طالما كان يهدف تنظيم العلاقات الاجتماعية أي وضع قيود على ممارسة الافراد لحرياتهم.. لكنه «أي القانون» بالضدية للمعنى الانطولوجي يصبح سلاحاً مهماً لانتزاع الحرية الفردية خاصة إذا كانت الاعراف أحد أهم أوعية الثقافة الاجتماعية تنحاز نحو استلاب حرية طائفة أو عرق أو نوع في اطار المجتمع الواحد أي أن يصبح القانون حامياً للحريات الفردية والأخلاق العامة وهو ما استقر عليه الضمير القانوني الحر اليوم، على اعتبار أن القانون الناضج والرشيد هو الذي يقيم موازنة دقيقة بين قيمة الحرية واحترام حقوق الانسان من ناحية وبين مصلحة المجتمع وأمنه واستقراره من ناحية ثانية.
وهو ماحدث مع المرأة مُذ كانت مجرد هامش انساني وجد من أجل اللذة والاستمتاع وخدمة المجتمع الابوي الذكوري المحض في ذهنية المشرع وغرائزه ولم تستطع القوننة النسائية أوللنساء انتزاع حقوقهن وحريتهن إلا بعد نضال شارك فيه المجتمع المدني ومنظماته وهيئاته وهو ماأنتج بعد ذلك الاعلان العالمي للقضاء على التميز ضد المرأة 1967م واعلان اتفاقية إلغاء كل أشكال التميز ضدها أيضاً1979م.
ـ وردية المواثيق وسوداوية الواقع
ورغم بعض المكاسب القانونية التي استطاعت المرأة الحصول عليها إلا أن ذلك لم يكبح جماح الوضع الاجتماعي والاقتصادي القائم على الاستغلال والظلم ولم تستطع أيضاً إلغاء الفوارق والتقريب بين الصورة الوردية التي تمنحها تلك المواثيق الدولية والصورة السوداء للواقع.
وفي ادراك واعٍ منها لعيوب الاعتماد على القانون في تقليص تبعية النساء وكيفية الاستفادة الممكنة من الاغتصاب القانوني قالت فرانسيس أولسن:«يمكن للتفسيرات القانونية أن تؤدي إلى اصلاحات تُحدث تغييرات في حياة الناس تزيد من قوة النساء» وهو قريب إلى حدٍ ما مع ما تحدثت به كاثرين ماكينوت في محاججتها منظري القانون «حكم القانون في الدولة الليبرالية ـ القانون الحيادي والمجرد والشامل ـ يثبت قوة الرجل بشكلها الذكوري.. تتجسد أشكال القوة الذكورية فوق النساء بصورة ايجابية كقانون الحقوق الفردية.. الحقوق المجردة تفوض التجربة الذكورية للعالم»
أظهرت الحقوق القانونية قدرة ما على انتاج التغير الاجتماعي وتقليل تبعية المرأة وكانت البداية التاريخية لهذا النجاح ممثلاً بظاهرة التحرش الجنسي حيث وفر للنساء المتحرش بهن تأمين الحماية القانونية وأوجد لهن منبراً للتعبير وسهل لهن ايجاد سلطة لتقديم دعاوي الحصول على المساعدة مما جعل حوادث التحرش الجنسي غير مبررة اجتماعياً بعد بروز مسلسل من مشاهد الاعتداءات والتحرشات الجنسية الواقعة على المرأة من قبل مرؤسيها وزملائها في الوظائف العامة وأماكن العمل.
وبعد سيل من الفواصل النضالية والتراكمات التاريخية التي خاضتها المرأة ضد القمع والتهميش والإلغاء والإقصاء النوعي والكبت الاجتماعي استطاعت المرأة الحصول على جزء كبير من حقوقها واقتربت كثيراً من حد المساواة وأصبحت شريكة فاعلة في النسيج الاجتماعي المنتج وتملكت وسائل الانتاج واكتسبت قدرة عالية في الادارة المجتمعية والمنافسة الاقتصادية والسياسية بكل وسائل التمكين المتاحة والممكنة ولعبت دوراً مهماً في صياغة الثقافة الاجتماعية وادمجت كينونتها في الكتابة التاريخية والفلسفية أي أنها أصبحت طرفاً مهماً في معادلة الأنسنة ولم تعد مجرد هامش حي.
هل هي ضحية سكين المشرع الفقهي ..
المـرأة العــربية
رغم بعض الامتيازات التي حصلت عليها المرأة العربية مؤخراً ، إلا أنها مازالت في بداية درجات السلم النضالي في طريق الحصول على حريتها وحقوقها ومساواتها المفترضة مع الرجل أو على أقل تقدير مع المرأة في العالم ، في إطار واقع عربي تسوده فكرة السيادة الذكورية المطلقة بينما تمثل لديه المرأة عورة مؤبدة وعار اجتماعي يجب كبحه ومحاصرته حتى لا تدفعه اللاعقلانية إلى الوقوع في المحظور والعيب .
محمد أركون في واحدة من تساؤلاته يضعنا أمام فجوة استلاب نوعي ورق اجتماعي مسنود لعادات وتقاليد وشرعنه وقوننه واستسلام جبري حين يطلب منا المقارنة التالية : ( كم هو عدد النساء اللواتي استطعن اليوم في مجتمعات العالم الثالث كما في المجتمعات الغربية إلى أن يتوصلن للسيطرة إلى الأصل البيولوجي والأنثروبولوجي والتاريخي والاجتماعي والثقافي لكل شرط إنساني من اجل قيادة معركة التحرر على صعدها الحقيقية وضمن منظور ترقية الشخص البشري ) .
فجوة واسعة تتسبب في تأجيج المعركة والحصول على الحرية خاصةً إذا كان مكان المعركة مجتمعات تعودت على القمع والكبت النسوي وافتقدت فيها المرأة صاحبة الشأن لعناصر وأدوات الدخول في مثل هذه المعتركات يكون طرفها الآخر ذكر يتسلح بالمجتمع والدين ولن تجدي أمامه صرخات فريدة النقاش في توصيف معركة المرأة : ( أنها إذن معركة شاملة على المرأة المسلمة أن تخوضها بمساندة الرجال المستنيرين وفقهاء الهامش الذين جرى قمعهم على مر العصور شأنهم شأن النساء ) وتذهب إلى اعتبار أن التجرد والاتسام بالنزاهة وإيمانهم بمبدأ تساوي البشر هو الذي يجب أن يحكم العلاقات الاجتماعية كمبدأ أساسي وتضيف إلى ذلك : ( لكن المعركة في ميدان الفقه المستنير والتأويل التقدمي للقرآن والسنة لم يكتب لها النجاح دون أن تُؤسس الحركات النسائية بصبر ودأب وبمرجعية جديدة تنهض على المدني وحده ، فإن المدني يتمثل في أرقى شكلاً له فيما يخص المرأة وهو الاتفاقية الدولية لإلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة ولابد أن تصبح حركات تحرر المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية جزءًا عضوياً من الحركة العالمية ) .
ولا يعتبر هذا الكلام تراجعاً منها بل إيضاح لبعض عوامل النجاح التي تمكن المرأة من قيادة معركتها من اجل التحرر .
إذاً يكمن انعدام وجود تكافؤ اجتماعي نوعي لعدة أسباب أهمها الموروث من العادات والتقاليد والتفسير والتأويل والتقنين الديني ومواءمة الموروث لفرضية الاعتياد لمجتمع الذكوري المحض من منطلق القوامة ، ويصف أركون ذلك ( كلما راحوا يادلجون المقدس التقليدي الموروث لأهداف سياسية تفاقم وضع المرأة وتدهورت مكانتها على المستويين الاثنوجرافي والإسلامي من التراث وكلما أصبح المرور إلى حالة الحداثة صعباً وشاقاً ) .
لم تجدي محاولات الشيخ الغزالي إثبات عدالة النص العقائدي المقدس وعدم تحيزه للنوع وهو يعالج بمشرطه الفكري المستنير مكامن الداء الاجتماعي المعروف بتميز النوع الملازم للمجتمعات العربية والإسلامية رغم الأدلة الدينية الواضحة التي حاولت كسر حدة التمايز والمقاربة التي تحفظ للنوع خصائصه ومميزاته في مواجهة كانت ينبغي الوصول إلى إعاقة لسلطة الذكر المطلقة المستمدة من سطوة العادة والتقليد المتوارث .
الشيخ محمد الغزالي – هو عكس أبو حامد الغزالي عدو العقل ونصير النقل الرافض تماماً للمعقول والمؤمن بالمنقول- يقول : ( المأساة أننا نحن المسلمين مولعون بضم تقاليدنا وآرائنا إلى عقائد الإسلام وشرائعه لتكون ديناً مع الدين ) وهو ما ينطبق تماماً مع ما وصفه أركون بأدلجة المقدس التقليدي والموروث .
كلنا نتفق مع قول الدين والعقيدة أو مجمل العقائد السماوية التي تصب في صالح الإنسان ولا تتعادى معه حتى لا نصبح قوم أعزنا الله بالإسلام وأذل الإسلام بنا .
تحرير الإنسان ( ذكر أو أنثى ) من عبودية العبد كانت الهدف الأسمى لكل الشرائع والعقائد السماوية قبل أن تعبث بها نوازع ورغبات المشرعين مستفيدين من الثغر القانوني التي تذهب كون الإسلام المصدر الوحيد للتشريع لتصبح بعدها الحقوق تحت سكين المشرع الفقهي .
في موضوعها الموسوم " حقوق المرأة بين الفقهي والمدني " كتبت فريدة النقاش : ( أننا حين نبحث عن حقوق المرأة نجد أنفسنا أمام مجموعة من الاجتهادات تأسست جميعاً على مدارس متباينة في الفقه بمذاهبه الخمسة ، المالكي والحنبلي والحنفي والشافعي والجعفري ، ولم يتبقٍ إلا مساحة محدودة ومعزولة للاجتهادات الأخرى من خارجه تعد في هذه الحالة منافية للدستور ) في إيعاز واضح منها للمادة الثانية من الدستور المصري الذي ينص على أن دين الدولة هو الإسلام وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع معتبرة إن أقصى ما يمكن الوصول إليه في ميدان حقوق المرأة هو التأكيد على التأويل الفقهي المستنير والمرن وصولاً إلى قيام النساء أنفسهن بإعادة تفسير الشريعة بما يسمح لهن تحديد احتياجهن الفعلية وتطوير مساهمتهن في صياغة القوانين خاصة قانون الأسرة طبقاً للمعايير الدولية وهو ما لا يمكن الاعتياد في الدستور باعتباره سنداً للمدني أي كمبدأي العدل والمساواة بصورة أساسية وربما أن منبث هذه الدونية المأخوذة من التأصيل الشريعي مرجعها الدائم استحوذ الرجل بتفسير الشريعة وقوننته دون المرأة .
وعن إنضاج الوعي وبروز الدور النضالي للمرأة في المطالبة بحقوقهن (( في مواجهة الدونية والسيطرة الذكورية )) يورد د. محمد برادة مجموعة أسباب بوصفها أساس حركات تحرر المرأة والدفاع عن حقها وهي كالتالي :
ـ الحق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي في حق المرأة .
ـ إبعاد المرأة عن السلطة والمشاركة في اتخاذ القرار .
ـ الاحتكام إلى منطق ذكوري في مجالات اجتماعية وسلوكية مما يعوق تحرير المرأة ويحول بينها وبين تحقيق الندية والتكافؤ مع الرجل .
ـ إعادة إنتاج هيمنة الرجل عبر محافل مؤسسية مؤثرة مثل المدرسة والدولة والأسرة .
يؤكد د. برادة على ضرورة التدريب ورفض الاجترار واستنساخ خطابات الآخر ومن ثمة الإلحاح على حضور عين المرأة وصوتها ولغتها ورؤيتها بالصراعات داخل المجتمع الذكوري الأبوي.