الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية
تب إنجلز: “الرجال العظام الذين أناروا الرؤوس في فرنسا من أجل الثورة التي كانت تقترب، كانوا أيضاً ثوريين للغاية فلم يقروا بأي سلطة خارجية، وخضع الدين والطبيعة والمجتمع ونظام الدولة، وكل شيء إلى المثول أمام محكمة العقل لكي يبرر وجوده، أو لكي يزول من الوجود“.
وغدا العقل المفكر المقياس الوحيد لكل ما هو موجود. وكان ذلك في زمن انتصب فيه العالم على الرأس على حد قول هيغل. أولاً بمعنى أن الرأس والمبادئ التي توصل اليها عن طريق الفكر كانت تدعي أنها وحدها جديرة بأن تتخذ أساسًا لكل أعمال الإنسان ولكل العلاقات الاجتماعية، وفيما بعد، بمعنى أوسع، بمعنى أن الواقع المخالف لهذه المبادئ قد قـُلب، في واقع الأمر رأسًا على عقب.
فإن جميع أشكال المجتمع والدولة السابقة، وجميع المفاهيم التقليدية قد اعتبرت غير معقولة وطرحت جانبًا يوصفها عفاشة قديمة، لقد سار العالم حتى ذاك وراء الأوهام وحدها، وكل الماضي لا يستحق غير الشفقة والازدراء. والآن بزغت الشمس للمرة الأولى وقامت سيادة العقل.
“فإن الأوهام، والجور، والامتيازات والاضطهاد، كل ذلك يجب ان يخلي المكان من الآن فصاعدًا للحقيقة الخالدة، والعدالة الخالدة، والمساواة النابعة من الطبيعة نفسها، وحقوق الإنسان الراسخة“.
إلا أننا نعرف اليوم أن سيادة العقل هذه لم تكن سوى سيادة البرجوازية المصورة بصورة المثال الأعلى، وأن العدالة الخالدة تجسدت في العدالة البرجوازية، وأن المساواة تلخصت في المساواة المدنية أمام القانون، وأن الملكية البرجوازية… أعلنت أول حق من حقوق الإنسان. وأن دولة العقل- العقد الاجتماعي الذي وضعه روسو- قد رأت النور بشكل جمهورية دمقراطية برجوازية، ولم يكن بالإمكان أن يحدث ذلك على غير هذا الشكل. فإن تيار مفكري القرن الثامن عشر، شأنهم شأن جميع أسلافهم، لم يكن بوسعهم تخطي الحدود التي فرضها عليهم عصرهم.
في بداية ظهور الطبقة البرحوازية أتاحت الظروف الموضوعية لممثلي البرجوازية أن يظهروا أنفسهم، لا بمظهر ممثلي طبقة ما بل بمظهر ممثلي الإنسانية المتألقة جمعاء.
وإذا كانت البرجوازية قد استطاعت، بشكل عام، أن تزعم ببعض الحق في تلك الفترة أي القرن السادس والسابع والثامن عشر على أنها تمثل في النضال ضد النبلاء والطبقة الإقطاعية مصالح مختلف الطبقات الكادحة في ذلك الحين، فقد كانت تقوم أيضا، إلى جانب كل حركة برجوازية كبيرة، حركة مستقلة للطبقة التي كانت السالفة، المتطورة لهذا الحد أو ذاك، للبروليتاريا العصرية.
فهكذا كانت حركة المعمدانيين الجدد (أنصار طائفة دينية نشأت في المانيا وسويسرا في القرن السادس عشر إبان حرب الفلاحين في سنتي 1524 و 1525، انضم المعمدانيون وكان يهيمن بينهم الفلاحون والحرفيون وصغار التجار الى الجناح الأوفر ثورية من الحركة، الذي كان يتزعمه توماس مونتزر).
وحركة السوائيين الحقيقيين (أو الديغـّر “..الحفارون..” وهم ممثلو تيار يساري متطرف في مرحلة الثورة البرجوازية الانجليزية في القرن السابع عشر. كان “الحفارون” يعبرون عن مصالح الفئات الفقيرة في الريف والمدينة، وقد طالبوا بتصفية الملكية الخاصة للأرض، وروجوا أفكار الشيوعية السوائية وحاولوا تحقيق هذه الأفكار في الواقع العملي بحراثة الارض المشاعية بصورة جماعية) أثناء الثورة الانجليزية الكبرى وبابوف أثناء الثورة الفرنسية الكبرى.
هذه النضالات الثورية المسلحة التي كانت تقوم بها الطبقة العاملة التي لم يكتمل تكوينها كانت تصحبها نظريات مناسبة: اللوحات الطوباوية عن النظام الاجتماعي الأمثل في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
(يقصد إنجلز هنا مؤلفي ممثلي الشيوعية الطوباوية، توماس مور “الطوباوية” الصادر عام 1516، وكامبانيلا “مدينة الشمس” الصادر عام 1623). ولم يقتصر مطلب المساواة على الحقوق السياسية، عند هؤلاء الفلاسفة، إنما كان يشمل أيضا أوضاع الفرد الاجتماعية، وأعطي البرهان لا على ضرورة إلغاء الامتيازات الطبقية فحسب، بل أيضا على ضرورة إلغاء الفوارق الطبقية.
وكان أول شكل ارتداه المذهب الجديد، في تلك الفترة، هو شكل شيوعية متقشفة، منسوخة عن سبارطة، تحرم التمتع بجميع أطايب الحياة.
ثم ظهر الطوباويون الثلاثة الكبار سان سيمون، الذي كان يقر لحدٍ ما بالميول البرجوازية الى جانب الميول البروليتارية، وفوريه وأوين، وقد عاش أوين في البلد الذي تطور فيه الإنتاج الرأسمالي أكثر مما في غيره من البلدان، وبتأثير التناقضات الناجمة عن هذا الإنتاج الرأسمالي، وضع أوين اقتراحاته لإلغاء الفوارق الطبقية بصورة نظام مرتبط بالمادية الفرنسية المباشرة.
ويتصف هؤلاء المفكرون الثلاثة بصفة مشتركة، هي كونهم لا يدعون بتمثيل مصالح البروليتاريا التي كانت قد تكونت تاريخيًا في ذلك الوقت، وعلى غرار المنورين لا ينزعون الى تحرير طبقة اجتماعية معينة قبل غيرها، بل الى تحرير الإنسانية بأسرها دفعةً واحدة. وعلى غرارهم يشاؤون أن يبسطوا سيادة العقل والعدالة الخالدة، إلا أن الفرق بين هذه السيادة وسيادة العقل عند المنورين، وكذلك الطوباويون الثلاثة الكبار، كالفرق بين الثرى والثريا.
“فالعالم البرجوازي القائم على مبادئ هؤلاء المنورين، جائر ومخالف للعقل مثل الإقطاعية وسائر الأنظمة الاجتماعية السابقة، ولذا ينبغي القذف به هو أيضًا في مقلب النفايات“.
“ولكن يبقى أن نؤكد بأن الفلاسفة الفرنسيون في القرن الثامن عشر مهدوا الطريق نحو الثورة وجعلوا من العقل القاضي الأعلى الوحيد لكل ما هو موجود“.
كان ينبغي، بنظرهم، بناء المجتمع والدولة على العقل، وإزالة كل ما هو مخالف للعقل الخالد بدون شفقة ولكن اتضح لاحقًا أن هذا العقل الخالد، بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة لم يكن سوى الفهم، المجعول مثاليًا، عند المواطن من الطبقة المتوسطة الذي كان آنذاك بالضبط في سبيل أن يصبح برجوازيًا. ولكن حين حققت الثورة الفرنسية مجتمع العقل هذا ودولة العقل هذه، اتضح أن المؤسسات الجديدة، وإن جاءت عقلانية بالقياس إلى النظام الماضي لم تكن معقولة إطلاقًا.
فقد أخفقت دولة العقل إخفاقا تاما. وتحقق العقد الاجتماعي الذي وضعه روسو، في “عهد الإرهاب”، وللخلاص من هذا العهد ارتمت البرجوازية في تلك الفترة وقد فقدت الثقة بكفاءتها السياسية في الديريكتوار (الديريكتوار كان يتألف من خمسة مدراء يعاد انتخاب واحد منهم كل سنة).
وكانت هذه الهيئة السياسية القيادية للسلطة التنفيذية في فرنسا قد تأسست وفقا لدستور عام 1795 الذي أقر بعد سقوط ديكتاتورية اليعاقبة الثورية عام 1794. دام الديريكتوار حتى الانقلاب الذي قام به بونابرت عام 1799. دعم الديريكتوار نظام الإرهاب ضد القوى الدمقراطية ودافع عن مصالح البرجوازية.
(“عهد الإرهاب”- مرحلة ديكتاتورية اليعاقبة الثورية الدمقراطية “من حزيران 1793 حتى تموز 1794″ – وفيها لجأ اليعاقبة الى الإرهاب الثوري للرد على إرهاب البجيرونديين والملكيين المعادي للثورة).
ثم استظلت في نهاية الأمر، كنف الاستبداد النابليوني وحلت الرشوة، محل الاضطهاد بالعنف وحلت النفوذ محل السيف بوصفها أهم وسيلة للسلطة الاجتماعية البرجوازية، وانتشر البغاء بشكل لم يكن معروفًا حتى ذلك الحين. وظل الزواج كما في السابق، الشكل الشرعي، الرداء الرسمي للبغاء، وبكلمة ظهرت المؤسسات السياسية والاجتماعية التي أقامها “انتصار العقل”، بمثابة مساخر مـُرَّه تخيب الآمال، بالمقارنة مع وعود المتنورين والفلاسفة الطوباويين البراقة.
في تلك الفترة، من عدم نضوج الإنتاج الرأسمالي، (أي القرن السابع عشر والثامن عشر) وعدم نضوج العلاقات الطبقية، قد قابلتها نظريات غير ناضجة.
ولكن مع تطور سلبيات المجتمع البرجوازي في تلك الفترة جعلت سان سيمون يقول عام 1816: “إن السياسة هي علم الإنتاج”، وتنبأ بامتصاص الاقتصاد للسياسة كليا. إن الفكرة القائلة بأن الأوضاع الاقتصادية هي أساس المؤسسات السياسية لا تبدو هنا، إلا بمثابة بذرة. وكذلك نجد عند فوريه انتقادًا لاذعا للنظام البرجوازي، ويكشف النقاب بلا رحمة عن بؤس العالم البرجوازي، المادي والمعنوي. إن فوريه ليس بناقد فحسب، بل أيضا، هاجٍ ساخر وحتى من أكبر الهجائيين في كل العصور.
فهو يرسم بكلمات لاذعة ساخرة دقيقة احتيالات المضاربة التي ازدهرت بعد انحطاط الثورة الفرنسية. وإنـّه الأشد لذعًا عندما يسلط نقده ضد الشكل البرجوازي للعلاقات الجنسية ووضع المرأة في المجتمع البرجوازي.
وهو أول من أعلن أن درجة التحرير العام في كل مجتمع معني تقاس بدرجة تحرر المرأة.
كتب فوريه يقول: “إن الفقر ينشأ عن الوفرة نفسها في المدنية”. وكان فوريه متمكن من الديالكتيك تمكن معاصره هيغل منه.
وخلافاً للتعابير الطنانة حول قابلية الإنسان اللامتناهية للترقي والاكتمال، يؤكد فوريه بصورة ديالكتيكية أيضا أن لكل طور تاريخي مرحلة صعود تليها مرحلة هبوط، ويطبق وجهة النظر هذه على مستقبل البشرية جمعاء. وكما أن الفيلسوف كانط أدخل في علم الطبيعة فكرة زوال الكرة الأرضية في المستقبل، كذلك أدرج فوريه في مفهوم التاريخ فكرة زوال الإنسانية في المستقبل.
كذلك في إنجلترا في تلك الفترة حدث انقلاب، أقل صخبا وضجيجا من الثورة الفرنسية، ولكنه ليس أقل قوة وشدة وعمق.
فالبخار وآلات العمل الجديدة خلقت صناعة عصرية كبيرة، وهكذا وبسرعة متناهية انقسم المجتمع الإنجليزي الى رأسماليين كبار وإلى بروليتاريين معدومين، وهذا أدى الى نشوء مصائب اجتماعية صارخة، مثل تكدس السكان الذين لا مأوى لهم، في الأطراف الرهيبة القدرة من المدن الكبيرة وانحلال جميع أواصر الأصل الموروثة عن الماضي، والنمط البطريركي والعائلة، تمديد يوم العمل بشكل رهيب للغاية، ولا سيما بالنسبة للنساء والأطفال.
في هذه الظروف ظهر فيلسوف مصلح في التاسعة والعشرين من عمره، ظهر رجل يجمع بين صفاء الطفل ونبله وبين قدرته على قيادة لم يملكها إلا قلة من الناس- وهو روبرت أوين- الذي قال إن طبع الإنسان هو من جهة، نتاج تركيبه الجسماني منذ ولادته، ومن جهة أخرى نتاج الظروف التي تحيط به أثناء حياته وبخاصة أثناء مرحلة نموه.
ولذلك نراه يقوم بتجربة في مانشستر في معمل يضم أكثر من 500 عامل وكان هو مديره، من عام 1800 حتى 1829، معمل لغزل القطن، في نيو لانارك في اسكتلندا، فقد كان مدير وشريك في هذا المصنع، ولكن سرعان ما أصبح اسمه معروف في كل أوروبا، فقد حول سكان نيو لانارك الذين بلغ عددهم تدريجيا 2500 شخص وتألفوا في البداية من العناصر المتفسخة المنهارة معنوياتها، إلى مستوطنة نموذجية لا تعرف العسكر والبوليس والقضاء الجنائي والدعاوي والجمعيات الخيرية والحاجة الى الإحسان الفردي.
وقد توصل إلى ذلك لأنه وضع الناس في ظروف أجدر بالانسان، ولأنه اعتنى على الخصوص بتربية الجيل الناشئ تربية صالحة. وفي نيو لانارك أقيمت أول مدارس للأطفال الصغار وكانت هذه المبادرة من بنات أفكار أوين.
كانت هذه المدارس تقبل الأطفال ابتداءً من الثانية من العمر، وفيها كانوا يمضون الوقت بدرجة من المتعة بحيث كان من الصعب إعادتهم الى البيت. وقد خفض أوين ساعات العمل في نيو لانارك إلى 10 ساعات ونصف الساعة بينما كان مزاحموه يجبرون العمال على العمل 13 و 14 ساعة في اليوم. وخلال أزمة قطنية توقف الإنتاج من جرائها أربعة أشهر، ظل أوين يدفع لعماله العاطلين عن العمل أجرة كاملة.
ومع ذلك زادت قيمة المؤسسة إلى أكثر من ضعفين وظلت تدر لأصحابها، طوال الوقت أرباحاً طائلة. ومع ذلك لم يكتف روبرت أوين بكل ذلك، فإن ظروف الحياة التي وفرها لعماله، والتي كانت أفضل بكثير من باقي عمال المصانع الأخرى، كانت في نظره، أبعد من أن تكون جديرة بالإنسان. وقد قال: “كان هؤلاء الناس عبيدي“.
ومن خلال هذه الممارسة العملية الصرف والحساب التجاري الواضح ولدت شيوعية أوين، وهكذا في عام 1823، وضع مشروعًا لإزالة البؤس الإيرلندي بإنشاء مستوطنات شيوعية.
كان انتقال اوين إلى الشيوعية نقطة الانعطاف في حياته. كان يرى بالملكية الخاصة، والدين والشكل الحالي للزواج العقبات الكبيرة التي تحول دون تحويل المجتمع.
وعندما أخذ يقارع هذه العقبات، كان يعرف ما ينتظره: نبذه عن المجتمع الرسمي، وفقدان مركزه الاجتماعي.
ولكن هذه الاعتبارات لم تستطع أن توقف أوين ولم تضعف عزيمته في هجومه الباسل. وكل ما توقعه حصل. فقد أقصيَ عن المجتمع الرسمي. وحاكت الصحافة حوله مؤامرة الصمت وضحى بكل ثروته في تجاربه الشيوعية الفاشلة في أمريكا.
وكان نصيبه منها الخراب والإفلاس. فتوجه مباشرةً الى الطبقة العاملة وواصل نشاطه في بيئة هذه الطبقة مدة ثلاثين سنة أخرى.
وكانت جميع الحركات الاجتماعية التي تحققت لمصلحة الطبقة العاملة في إنجلترا وجميع منجزاتها الحقيقية ترتبط باسم أوين، ففي عام 1819 بعد خمس سنوات من جهوده، سن أول قانون يحدد ساعات عمل النساء والأطفال في المعامل.
وترأس أول مؤتمر للجمعيات التعاونية والنقابات عام 1833 في لندن، وفي هذا المؤتمر تأسس رسميا الإتحاد الوطني الكبير للمهن (للصناعات) في بريطانيا العظمى. وفي شباط 1834 تم التصديق على النظام الداخلي للإتحاد.
كان أوين يعتقد أنه يجب على الإتحاد أن يأخذ بيده إدارة الإنتاج وتحويل المجتمع تحويلاً تاماً بطريقة سلمية. وسرعان ما مني هذا البرنامج الطوباوي بالإخفاق.
لقي الاتحاد مقاومة قوية من جانب المجتمع البرجوازي القوي الناشئ والدولة البرجوازية فانحل في آب عام 1834.
عند كل هؤلاء الفلاسفة، الفرنسيون والإنجليز والشيوعية الالمانية (ويتلينغ) والاشتراكية بنظرهم جميعا هي التعبير عن حقيقة مطلقة، هي التعبير عن العقل والعدالة، ويكفي اكتشافها حتى تقهر العالم كله بقوتها نفسها.
ولكن هذه الاشتراكية الطوباوية الاختيارية، فشلت بسبب محاربة الطبقة السائدة في المجتمع البرجوازي- الطبقة البرجوازية، وبسبب ارتكازها على طروحات ذاتية، وبسبب التناقضات الجدلية، داخل المجتمع الطبقي البرجوازي
فمن أجل تحويل الاشتراكية الى علم كان ينبغي وضعها على صعيد واقعي، وهذا ما فعله ماركس وانجلز.